بقي حصون منها الصعب والوطيح والسلالم والقموص وقد تحصن بها اليهود أشد التحصين، ولكن ذلك لم يمنع المسلمين من تقوية الحصار عليهم.
ثم بعد ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لصحابته المجاهدين: "لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، يفتح الله على يديه، ليس بفرار" ثم دعا عليا رضي الله عنه وكان قد أصيب بمرض في عينيه، فتفل النبي صلى الله عليه وسلم فيهما فشفي بإذن الله، وأخذ الراية من رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقدم بمن معه، فلما اقترب من أحد الحصون الباقية خرج إليه بعض اليهود فقاتلهم، إلا أنه تلقى ضربة فوقع الترس منه، عندها حصلت له كرامة عظيمة كونه وليا من أولياء الله الصالحين، فقد تناول بابا كان عند الحصن وجعله ترسا أبقاه في يده يقاتل به حتى فتح الله على يديه، ثم ألقى الباب وجاء ثمانية من الصحابة ليقلبوا هذا الباب فما استطاعوا.
استمر القتال وهجم المسلمون هجمة قوية على حصن الصعب بقيادة الحصابي الفاضل حباب بن المنذر، فخرج منه يهودي متعجرف هو نفسه مرحب الذي قتل الصحابي محمود بن مسلمة ونادى: "من يبارزني؟" فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصحابي محمد بن مسلمة شقيق محمود ليبارزه ويأخذ بثأر أخيه، ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم قائلا: "اللهم أعنه عليه"، فتقاتلا طويلا ثم عاجله محمد بضربة قاصمة قتلته، وقيل إن الذي قتل اليهودي مرحب هو سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولم يصمد حصن الصعب طويلا حتى فتح ودخله المسلمون منتصرين، وكان في الحصن الكثير من التمر والزبيب والعسل والسمن فأكل المسلمون حاجتهم منه بعد ما نالهم الكثير من التعب والجوع، ووجدوا فيه الكثير من السيوف والدروع والنبال وغيرها من العتاد الحربي الذي استعملوه في حربهم فنفعهم نفعا كبيرا.
وتجدد القتال إذ ما زالت بعض الحصون لم تسقط، وبقي اليهود يهربون إلى أن وصلوا إلى حصن ءاخر هو حصن الزبير فلحق بهم المسلمون وحاصروهم ثلاثة أيام ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع الماء عنهم لإجبارهم على الخروج، فما كان من اليهود إلا أن فتحوا الحصن وخرجوا منه يقاتلون وجها لوجه، فقهروا وكان النصر حليفا للمسلمين.
وتداعت حصون خيبر على هذا النحو وسقط حصن الوطيح والسلالم وكانا ءاخر ما افتتح، فلما أيقن اليهود بالهلاك سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يوقف الحرب، واستسلموا على أن لا يقتل منهم أحد ويتخلوا عن حصونهم كلها بما فيها من أموال ومتاع.
وهكذا غُلب اليهود وذهبت فوتهم وأصبح المسلمون في مأمن من ناحية الشمال إلى جهة بلاد الشام بعدما أصبحوا في مأمن من ناحية الجنوب.
وكان فتح خيبر حدثا عظيما اهتزت له أركان قريش، فقد كان نبأ انتصار المسلمين على اليهود مذهلا ومروعا عند قريش، إذ كانوا لا يتوقعون انهيار حصون خيبر المنيعة، ولا اليهود أنفسهم كانوا يتوقعون غزو المسلمين لهم.
فانظروا كيف أن اليهود الذين كانوا عشرة أضعاف جيش المسلمين ومعهم السلاح الكثير، وفي حصون منيعة هزموا من المسلمين القليلي العدد والعدة، الذين كانوا في أرض مكشوفة، غير محصنين، ولا يملكون السلاح الكافي ولا الطعام المخزون، وهذا ليس إلا لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا ينصرون دين الله تحت لواء النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ينصر دين الله فالله ناصره.